عبد الرحيم العلام في زيارة لبيت الكاتب أحمد المديني أطلعني على شريط فيديو ذي أهمية نوعية وفنية خاصة، حمله معه من بغداد، فقلت في نفسي، قبل أن أطلعكم عن فحوى هذا الشريط، لم لا نتذكر نحن، هنا في المغرب، ونخلد ذكرى من غادرونا، من الكتاب والفنانين، بنفس هذه الطريقة البديعة التي تمت بها برمجة ثماني دقائق (فقط) طافحة بالمتعة والإنسانية، حينا، وبالأسى حينا آخر على فنانة عربية ذهبت غيلة، ويتعلق الأمر، هنا، بالفنانة العراقية ليلى العطار. لم لا نستعيد ذكرى كتاب غادرونا، هنا أو هناك، بغتة، في موت لا يقل عنفا من ثقل ذلك الصاروخ الذي سقط، فجأة، على بيت ليلى العطار فدمره تدميرا، وقتل من كان نائما فيه، يحلم ذات ليلة من ليالي بغداد الأسطورية...
بعيدا عن أجواء الموت ولعنته، نجد أن معظم كتابنا المغاربة، المحدثين، قد حصدهم إما ذلك المرض الفتاك (السرطان)، أو غيره من الأمراض التي لا تقل تأثيرا وتدميرا من دمار الصواريخ نفسها، هاته التي ما زالت تنزل بردا، من دون سلام، على بغداد وتقتل من تصادفه في طريقها. فباستثناء بعض المبادرات الطيبة، والمتقطعة أحيانا، من هذه الجهة أو تلك، للحفاظ على ذكرى كتاب غادرونا في لهفة من حروبنا الصغيرة والتافهة ( كالاحتفاء بذكرى الشاعر عبد الله راجع والكاتب محمد خير الدين والزجال العربي باطما، خصوصا)، فإنه لا وجود لمبادرات، هنا والآن، بهذه الطريقة أو تلك، لتخليد ذكرى رجال غادرونا، ينتمون إلى جيل قريب جدا من ذاكرتنا ومن قلوبنا ( كالراحلين عنا من الشعراء: أحمد الجوماري وأحمد المجاطي ومحمد الخمار الكنوني والفقيه محمد المنوني والقاص مبارك الدريبي، وغيرهم ممن رحلوا خلسة عنا وعن أعمالهم وآثارهم)، فما بالك بالتساؤل، الآن، عن عدد المبادرات، الشخصية أو الجمعوية، التي تواكب الأحياء من كتابنا المرضى الموزعين على امتداد التراب الوطني (في مراكش وتطوان ومكناس والقنيطرة، حتى لا نذكر الأسماء...) وخارجه أيضا. كم هو عدد المبادرات التي تواكب مرض الكاتب الكبير محمد زفزاف وهو طريح الفراش لمدة تجاوزت، الآن، الأربعة أشهر، هناك في باريس. وأين هو ذلك الدعم، المعنوي والرمزي على الأقل، الذي نتحدث عنه دائما. صحيح أن هناك التفاتات مشكورة من بعض كتابنا ومن اتحاد كتاب المغرب لزيارة محمد زفزاف والتخفيف عنه من شدة الوحدة وقساوة المرض، هناك بفرنسا، حيث يتأسس معنى جديد للحياة، خارج لذة الحياة بحي المعاريف بالدار البيضاء، حيث يقطن محمد زفزاف منذ أن قدم إلى هذه المدينة التي عشقها حتى النخاع وكتب عنها أجمل رواياته ومجاميعه القصصية. لكن، بموازاة مع ذلك، لم لا تتحرك إحدى تلفزتينا، وهما اللتان رفعتا شعار الحركة منذ مدة، في زيارة لزفزاف، لأجل أن تسجل معه شريطا متلفزا، يتم، من خلاله، إشراك الجمهور العريض، من القراء والمتعاطفين، في محنة الكاتب الكبير؟
أعود لموضوع ذلك الشريط المنجز ـ في انتظار شريطنا المنتظر ـ المعنون بـ«اللوحة الاخيرة» وهو من إنتاج شركتي (هاي فيلم) و(وفاء عوض). شريط جميل ومؤثر، يتتبع، في بعض مشاهده، جوانب من المسار الحياتي والفني لليلى العطار، مصحوبا بموسيقى هادئة لنصير شمة وقراءة شعرية للشاعر حميد سعيد، وهو من إخراج خيرية المنصور. ينفتح هذا الشريط على جينيريك يعكس إحدى زوايا مرسم ليلى العطار كما ينغلق على نفس المشهد. وما بين الانفتاح والانغلاق هناك حياة فموت فحياة. مناظر لنهر دجلة وقد غدا صحيفة فضية متلألئة، وميدان التحرير ببغداد، وفجأة تتحول الكاميرا نحو ليلى العطار في سيارتها الفولفو، منتشية بمعالم ذلك الفضاء الذي تعبره، ثم في مشهد بديع مع الأسرة، وفي مرسمها، وهي تغازل الفرشاة بمثل تلك الخفة والرشاقة اللتين تلامس بهما الفرشاة إحدى لوحاتها، قد تكون هي تلك اللوحة الأخيرة لها.
غير أنه في ليلة 27/6/1993، والساعة كانت تشير إلى الدقيقة الثانية عشرة بعد منتصف الليل، يعبر مطر أسود سماء بغداد، فيختار السقوط، بدون رحمة، على بيت ليلى العطار في مشهد مروع وبوحشية بربرية قد لا تتذكرها جيدا سوى تلك المرأة المسنة التي أبرزها الشريط وهي تبكي المرأة العربية في شخص ليلى التي في العراق ميتة. وسط الخراب والتلاشي تناثرت، هنا وهناك، لوحات ليلى ووساداتها الملونة وقد صمدت أمام الدمار، مجسدة بذلك نوعا من الخلود الرمزي لليلى ولفنها. ثم يأتي المشهد الرهيب، مشهد جنازة فنانة، على امتداد شارع كبير وسط موكب شعبي كبير أغلبه من النساء، هؤلاء اللائي يطلقن صرخات مدوية تخترق سماء بغداد وقد غدت قاتمة حزينة. بموازاة مع كل هذه المشاهد يصلنا صوت الشاعر حميد سعيد بدفئه وبنبراته الحزينة، في قصيدة قوية ومؤثرة يرثي فيها ليلى، من بين ما قاله فيها:
في تلك الليلة.. كانت تسهر في مرسمها تتصيد من بعض كنوز أصابعها أقمارا وسحابا وفراشات لكن الألوان اعتكفت في حُق الكحل..
ونامت في برد النسيان أو بعد الألفة..
وهي القصيدة التي أدرجت، في ما بعد، ضمن مختارات شعرية بعنوان (من الحدائق التسع) من مجموعات الشاعر التسع التي نشرها على امتداد الثلاثين سنة الأخيرة، وهي من انتقاء وتقديم لهادي دانيال (دار نقوش عربية، الطبعة الأولى 1997، ص 72 ـ 76 ). وكما هو معروف، فإن ليلى العطار قد غادرتنا بعد حياة، لم يكتب لها أن تكتمل بشكلها الطبيعي (ولدت ببغداد عام 1944)، لكنها كانت غنية بالمنجزات الفنية والمعارض الدولية والجوائز والأوسمة المهمة، وكان آخر منصب شغلته الراحلة ليلى العطار، قبل اغتيالها، هو منصب مدير عام دار الفنون بوزارة الثقافة والإعلام. ذلك فقط مجرد شريط، لكنه طافح بالذكري وبالعمق الإنساني تجاه فنانة، غادرتنا، هناك، لكنها لم تمت.
بعيدا عن أجواء الموت ولعنته، نجد أن معظم كتابنا المغاربة، المحدثين، قد حصدهم إما ذلك المرض الفتاك (السرطان)، أو غيره من الأمراض التي لا تقل تأثيرا وتدميرا من دمار الصواريخ نفسها، هاته التي ما زالت تنزل بردا، من دون سلام، على بغداد وتقتل من تصادفه في طريقها. فباستثناء بعض المبادرات الطيبة، والمتقطعة أحيانا، من هذه الجهة أو تلك، للحفاظ على ذكرى كتاب غادرونا في لهفة من حروبنا الصغيرة والتافهة ( كالاحتفاء بذكرى الشاعر عبد الله راجع والكاتب محمد خير الدين والزجال العربي باطما، خصوصا)، فإنه لا وجود لمبادرات، هنا والآن، بهذه الطريقة أو تلك، لتخليد ذكرى رجال غادرونا، ينتمون إلى جيل قريب جدا من ذاكرتنا ومن قلوبنا ( كالراحلين عنا من الشعراء: أحمد الجوماري وأحمد المجاطي ومحمد الخمار الكنوني والفقيه محمد المنوني والقاص مبارك الدريبي، وغيرهم ممن رحلوا خلسة عنا وعن أعمالهم وآثارهم)، فما بالك بالتساؤل، الآن، عن عدد المبادرات، الشخصية أو الجمعوية، التي تواكب الأحياء من كتابنا المرضى الموزعين على امتداد التراب الوطني (في مراكش وتطوان ومكناس والقنيطرة، حتى لا نذكر الأسماء...) وخارجه أيضا. كم هو عدد المبادرات التي تواكب مرض الكاتب الكبير محمد زفزاف وهو طريح الفراش لمدة تجاوزت، الآن، الأربعة أشهر، هناك في باريس. وأين هو ذلك الدعم، المعنوي والرمزي على الأقل، الذي نتحدث عنه دائما. صحيح أن هناك التفاتات مشكورة من بعض كتابنا ومن اتحاد كتاب المغرب لزيارة محمد زفزاف والتخفيف عنه من شدة الوحدة وقساوة المرض، هناك بفرنسا، حيث يتأسس معنى جديد للحياة، خارج لذة الحياة بحي المعاريف بالدار البيضاء، حيث يقطن محمد زفزاف منذ أن قدم إلى هذه المدينة التي عشقها حتى النخاع وكتب عنها أجمل رواياته ومجاميعه القصصية. لكن، بموازاة مع ذلك، لم لا تتحرك إحدى تلفزتينا، وهما اللتان رفعتا شعار الحركة منذ مدة، في زيارة لزفزاف، لأجل أن تسجل معه شريطا متلفزا، يتم، من خلاله، إشراك الجمهور العريض، من القراء والمتعاطفين، في محنة الكاتب الكبير؟
أعود لموضوع ذلك الشريط المنجز ـ في انتظار شريطنا المنتظر ـ المعنون بـ«اللوحة الاخيرة» وهو من إنتاج شركتي (هاي فيلم) و(وفاء عوض). شريط جميل ومؤثر، يتتبع، في بعض مشاهده، جوانب من المسار الحياتي والفني لليلى العطار، مصحوبا بموسيقى هادئة لنصير شمة وقراءة شعرية للشاعر حميد سعيد، وهو من إخراج خيرية المنصور. ينفتح هذا الشريط على جينيريك يعكس إحدى زوايا مرسم ليلى العطار كما ينغلق على نفس المشهد. وما بين الانفتاح والانغلاق هناك حياة فموت فحياة. مناظر لنهر دجلة وقد غدا صحيفة فضية متلألئة، وميدان التحرير ببغداد، وفجأة تتحول الكاميرا نحو ليلى العطار في سيارتها الفولفو، منتشية بمعالم ذلك الفضاء الذي تعبره، ثم في مشهد بديع مع الأسرة، وفي مرسمها، وهي تغازل الفرشاة بمثل تلك الخفة والرشاقة اللتين تلامس بهما الفرشاة إحدى لوحاتها، قد تكون هي تلك اللوحة الأخيرة لها.
غير أنه في ليلة 27/6/1993، والساعة كانت تشير إلى الدقيقة الثانية عشرة بعد منتصف الليل، يعبر مطر أسود سماء بغداد، فيختار السقوط، بدون رحمة، على بيت ليلى العطار في مشهد مروع وبوحشية بربرية قد لا تتذكرها جيدا سوى تلك المرأة المسنة التي أبرزها الشريط وهي تبكي المرأة العربية في شخص ليلى التي في العراق ميتة. وسط الخراب والتلاشي تناثرت، هنا وهناك، لوحات ليلى ووساداتها الملونة وقد صمدت أمام الدمار، مجسدة بذلك نوعا من الخلود الرمزي لليلى ولفنها. ثم يأتي المشهد الرهيب، مشهد جنازة فنانة، على امتداد شارع كبير وسط موكب شعبي كبير أغلبه من النساء، هؤلاء اللائي يطلقن صرخات مدوية تخترق سماء بغداد وقد غدت قاتمة حزينة. بموازاة مع كل هذه المشاهد يصلنا صوت الشاعر حميد سعيد بدفئه وبنبراته الحزينة، في قصيدة قوية ومؤثرة يرثي فيها ليلى، من بين ما قاله فيها:
في تلك الليلة.. كانت تسهر في مرسمها تتصيد من بعض كنوز أصابعها أقمارا وسحابا وفراشات لكن الألوان اعتكفت في حُق الكحل..
ونامت في برد النسيان أو بعد الألفة..
وهي القصيدة التي أدرجت، في ما بعد، ضمن مختارات شعرية بعنوان (من الحدائق التسع) من مجموعات الشاعر التسع التي نشرها على امتداد الثلاثين سنة الأخيرة، وهي من انتقاء وتقديم لهادي دانيال (دار نقوش عربية، الطبعة الأولى 1997، ص 72 ـ 76 ). وكما هو معروف، فإن ليلى العطار قد غادرتنا بعد حياة، لم يكتب لها أن تكتمل بشكلها الطبيعي (ولدت ببغداد عام 1944)، لكنها كانت غنية بالمنجزات الفنية والمعارض الدولية والجوائز والأوسمة المهمة، وكان آخر منصب شغلته الراحلة ليلى العطار، قبل اغتيالها، هو منصب مدير عام دار الفنون بوزارة الثقافة والإعلام. ذلك فقط مجرد شريط، لكنه طافح بالذكري وبالعمق الإنساني تجاه فنانة، غادرتنا، هناك، لكنها لم تمت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق